كتب د/ راغب السرجاني
كثيرًا ما يأخذ الجبابرة والطغاة قراراتٍ مصيريةً يكون فيها كثير من النفع للأمة
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (المدثر: 31).
وفي القرآن الكريم نجد قصة فرعون كبير الطغاة في العالم، ومضرب المثل لهم، وقد رأينا أنه جمع جيشه بكامله لمطاردة النبي موسى عليه السلام، ومَن معه من بني إسرائيل، ثم شاهد بعيني رأسه المعجزة الخارقة وانشقاق البحر؛ لكنه ما اعتبر ولا اتعظ، فأخذ القرار المتكبّر بخوض البحر المشقوق ليكمل
المطاردة اللئيمة، فقاد قومه إلى الهلكة، وتحقق النفع للمؤمنين، وبعده جاء فرعون الأمّة الإسلامية أبو جهل، الذي أصرّ على دفع قومه إلى القتال ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، على الرغم من معارضة قادة مكة لهذا القتال، ومع ذلك تمّ القتال، فكان يوم الفرقان بآثاره المجيدة على الأمة، وتداعياته الخطيرة على المشركين..
وفي 27 ديسمبر سنة 2000 قام رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق شارون بزيارة المسجد الأقصى، في موقف لا داعي له مطلقًا، وليس من ورائه فوائد كثيرة، إلا أن الله أراد أن يكون هذا الحدثُ العابرُ شرارة الانطلاق للانتفاضة الفلسطينية المباركة، التي مازالت آثارها الحميدة موجودة إلى الآن..
وفي 27 ديسمبر سنة 2008 أخذ أولمرت قرارًا غاشمًا بضرب غزة عسكريًّا جوًا وبحرًا ثم أرضًا آملاً أن يُقصي حماس عن قيادة قطاع غزة، وراغبًا في إبعاد الإسلام عن معادلة الصراع، ومحققًا آمال العلمانيين من الفلسطينيين والعرب الذين يرغبون في عودة أبي مازن وأعوانه إلى قيادة القطاع..
لكنْ تأتي الرياحُ بما لا تشتهي السفن!
يقول تعالى : }إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا{ (الطارق: 15، 16).
حقًا.. ألا شكرًا لأولمرت!!
لقد حقق أولمرت بهذه الخطوة الهوجاء فوائد جمّة للأمة الإسلامية لا يمكن حصرها في مقال واحد..
ولعلّ من أعظم هذه الفوائد كشف الأوراق وتوضيح الرؤية..
لقد وضحت أمور كثيرة للشعوب الإسلامية وكذلك للعالم أجمع، وكنا نحتاج في الحقيقة إلى عشرات السنين، فإذا بقرار أولمرت الغاشم يحقق هذه الرؤية الواضحة، في أقل وقت، وبشكل حاسم.
لقد كُشفت أوراق معظم الحكّام العرب بشكل واضح وجلي، وظهر التعاون
الأكيد مع الكيان الصهيوني ضد مصلحة الشعب الفلسطيني وضد مصلحة القضية برمتها.. والحقُ أن أوراق هؤلاء الحكام مكشوفة منذ زمن، إلا أن الأمر الآن ازداد وضوحًا، حتى صار موضع إنكار من الغربيين أنفسهم، ولسنا ببعيدين عن انتقاد سكرتير الأمم المتحدة بان كي مون للقادة العرب الذين تخاذلوا عن نصرة إخوانهم في فلسطين، وفشلوا في كل شيء حتى في مجرد الاجتماع والكلام!!
لقد حرص الزعماء العرب في سنة 1948 على القيام بتمثيلية حرب ضد اليهود وكأنهم يحررون فلسطين، ولكنها كانت تمثيلية لتكريس الوجود الصهيوني في فلسطين، فقد كانت الجيوش العربية تحت زعامة إنجليزية، وما حاربت الجيوش العربية إلا في المناطق التي قسمتها الأمم المتحدة للعرب في قرار التقسيم الظالم سنة 1947، ولم تدخل الأراضي المقسومة لليهود إلا مرة واحدة على سبيل الخطأ، وقام الجيش العراقي الذي أخطأ بدخول الأراضي المقسومة لليهود بالانسحاب فورًا منها بناءً على أوامر الجامعة العربية..
لقد كانت تمثيلية حقيرة بكل المقاييس!!
وصلت في حقارتها إلى أنهم قاموا باعتقال كل المجاهدين من مصر وسوريا والأردن، ووضعوهم في السجون بتهمة الجهاد في فلسطين ضد اليهود..
هذه كانت تمثيلية سنة 1948..
لكنْ في غزة "ديسمبر 2008" وما بعده لم تكن هناك تمثيلية، إنما كان اللعب على المكشوف!
لم يكلّف الزعماء العرب أنفسهم بحبك تمثيليةً لخداع الشعوب؛ أنهم يقاتلون من أجل فلسطين، أو تمثيلية لإقناعهم أنهم مازالوا شرفاء كرماء أوفياء للوطن والدين..
لم يكلف الزعماء العرب أنفسهم عناء الخداع والغش..
بل أعلنوها صريحة واضحة: إننا لا نهتم لا من قريب ولا من بعيد بهذه الأحداث الدامية في أرض غزة.. لن يتحرك جيشٌ، ولن تقطع علاقة مع الكيان الصهيوني، ولن يوقفُ تطبيع، ولن ينقطعَ ضخّ الغاز إلى اليهود، ولن يمارسَ أيُّ ضغط على الحكومة الإسرائيلية، بل أعلنوا – وبجرأة عجيبة- أنهم ضد الحكومة الفلسطينية التي اختارها الشعب بنفسه، وأنهم سيقفون مع السلطة الفلسطينية القديمة بقيادة أبو مازن، وهي السلطة التي لفظها الشعب وكرهها بعد رؤية سرقاتها ومنكراتها، وبعد تفريطها في حقوق الفلسطينية، وبعد ولائها الصريح لليهود والأمريكيين..
لقد كُشفت الأوراقُ كأوضح ما يكون..
لقد ذكر الدكتور مصطفى الفقي، وهو أحد أكبر رجال الحكومة المصرية، في حوار معه في جريدة الأهرام المصرية يوم الجمعة 16 يناير 2009 أن مصر لن تسمح بقيام إمارة إسلامية على حدودها الشرقية! وأن هذا مسألة أمن قومي!!
فالأمن القومي المصري يخشى من قيام حكومة ذات توجّه إسلامي كحكومة حماس في فلسطين، لكن الأمن القومي المصري لا يجد غضاضة في قيام دولة عسكرية صهيونية نووية في ذات الأرض المجاورة أرض فلسطين!
لقد أصبحت حماس في حسابات بعض الزعماء العرب أخطر من أولمرت وباراك وليفني!!
هل يمكن أن يقول عاقل مثلَ هذا الكلام؟!
إنه كلام غير مقبول لا عقلاً ولا شرعًا..
لكن هذا الكلام قيل بالفعل..
إن المسألة كما يقولون مسألة آمن قومي!
إنهم يخشون بوضوح أن ينتقل النموذج الإسلامي الذي تطبقه حماس إلى غيرها من الدول المحيطة.. فهم يدركون تمامًا أن حماس لا تفكر في غزو مصر أو الأردن أو السعودية، ولا تفكر في منافسة الزعماء العرب على كرسي حكمهم، لكنهم يخشون تمام الخشية من إعجاب الشعوب الإسلامية بهذا النموذج، ومن ثم تطبيقه في البلاد المختلفة، وعندها ستضيع الكراسي والسلطات، وتصبح الكلمة الأولى للإسلام، وهذا ما يرفضونه تمامًا..
إن الزعماء العرب ينظرون للإسلاميين على أنهم منافسون لهم في الحكم، ولذلك يكرهونهم بل يمقتونهم، والجميع يعرف أن الدكتور مصطفى الفقي على سبيل المثال لم يدخل مجلس الشعب المصري إلا بعد تزوير الانتخابات في دائرته الانتخابية، وإقصاء الرجل الإسلامي الذي كان ينافسه.. إنهم يعلمون أن الشعوب لو تُرك لها حرية الاختيار ستختار نظيف اليد سليم العقيدة، ولن تختار من عاش لنفسه فقد ولم ينظر مطلقًا إلى مصالح الأمّة..
لقد أعلنها الحكام صريحة: نحن ضد رغبات الشعوب، وضد الإسلاميين، وضد النظافة والشرف والكرامة والمجد..
إن أولمرت صديق، وإسماعيل هنية عدو.
وليفني تمثل شرعية قانونية سليمة، أما الزهّار فشرعيته مفقودة، ودولة إسرائيل دولة حقيقية، أما دولة فلسطين فدولة وهمية..
وهذه الأمور كانت واضحة منذ زمن.. لكنها ازدادت وضوحًا بعد رعونة أولمرت الأخيرة، وقصفه الوحشي لقطاع غزة..
إنّ كشف الأوراق هذا مرحلةٌ إيجابية جدًّا، وهي تحمل مبشراتٍ عظيمة، لأن التاريخ يعلمنا أن التغيير الحقيقي في الأمم لا يحدث إلا بعد أن تكشف أوراق الجميع.. فتعلم الشعوب مَن الصالح ومَن الطالح، ومن المجاهد ومن المنافق، ومن الذي يدفع روحه لنجدة شعبه، ومن الذي يدفع أرواح شعبه بكامله لينقذ روحه!
إنها بشارات خير وأمل..
{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} (الإسراء: 51).
ونسأل الله أن يعزّ الإسلام والمسلمين.
نقلا عن موقع قصة الأسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق